خامسًا: عالِج داءَك الذي يحول بينك وبين الجنّة: فإنَّ معالجة نفسك مما يأسرك من ذنوب ومعاصٍ سبيل غفران وعتق من النار؛ ولعل قصة قاتل المائة تدلّنا على ذلك؛ فالرجل القاتل أراد أن يتوب فبحث عن عالمٍ، حتى دلّه العالم الربّانيّ على معالجة نفسه من دائه، من خلال ترك أرض المعصية ومغادرتها إلى أرض الطاعة، وكانت النتيجة أن كُتِب من أهل الجنّة وأعتق الله رقبته من النار. سادسًا: الدعاء واللجوء إلى الله والإلحاح بطلب العتق من النار: فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ t، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله r: " مَنْ سَأَلَ الله الْجَنَّةَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، قَالَتْ الْجَنَّةُ: اللَّهُمَّ أَدْخِلْهُ الْجَنَّةَ، وَمَنْ اسْتَجَارَ مِنْ النَّارِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، قَالَتْ النَّارُ: اللَّهُمَّ أَجِرْهُ مِنْ النَّارِ " [سنن ابن ماجه وهو حديث صحيح]. وهذا يعني أنّ من الأعمال التي بسببها يُعتق المرء من النار: كثرة الدعاء بطلب العتق، فقل: اللهم أجِرْني من النار. وقد وردت آية الدعاء ضمن مضامين الحديث عن شهر رمضان، قال تعالى:) وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ( [البقرة: 186].
أيها الإخوة والأخوات: لقد ورد في مضامين الحديث عن فضائل شهر رمضان: (( ولله عتقاء من النارِ في رمضان، وذلك كلَّ ليلة)) وهو حديث صحيح أخرجه ابن ماجه والترمذي والحاكم وابن حبان وابن خزيمة والهيثمي وغيرهم... تصوّر وتخيّل أنّ في كل ليلة من رمضان هناك عُتقاء لله من النار، كُتبت أسماؤهم وأُعتقت رقابهم من الجحيم..... والسؤال: كم عدد هؤلاء الذين سيعتق الله رقابهم من النار؟ لا يعلمُ عدَدَهم إلا الله.. والعتق -أيها الإخوة- هو النّجاة من النار والفوز بالجنة. وللوصول إلى هذه الدرجة من الكرامة فلا بد من الأخذ بالأسباب الموصلة لذلك، قال تعالى:) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ( [التحريم: 6]. فخذوا بالأسباب لتُعتق رقابنا ورقابكم من النار. ويقول القائل: ترجو السعادة ولم تسلك مسالكها *** إنّ السفينة لا تجري على اليَبَسِ وتتعدد الأسباب وتتنوّع، لكني أتوقّف هنا على بعض هذه الأسباب، وهي عشرة كاملة بإذن الله تعالى، وبيانها على النحو التالي... كيف تنال العتق من النار في رمضان؟ أولا: الإخلاص لله تعالى في الإيمان والعمل من صلاة وصيام وسائر الأعمال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: (( لَنْ يُوَافِيَ عَبْدٌ يَوْمَ القِيَامَةِ، يَقُولُ: لاَ إِلَهَ إِلَّا الله، يَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ الله، إِلَّا حَرَّمَ الله عَلَيْهِ النَّارَ)).
الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي بلّغنا رمضان بصيامه وقيامه، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أنّ سيدنا ونبينا وحبيب قلوبنا محمدًا الإمام الصادق المصدوق، أمّا بعــد: فيقول الله تعالى في محكم التنزيل:) فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ( [آل عمران: 185].. زُحزِح أي: أُبْعِدَ عنها، وأُدْخِل الجنة، هذا هو الفائز الحقيقي. وها هي أيام رمضان تمضي سريعًا؛ وقد ودّعنا أيّامًا مضت من موسم الخيرات -رمضان-، وصدق الله إذ يقول:) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ ( [البقرة: 184].. لكن لا زالت نفحاته وبركاته قائمة لمن تعرّض لها وأخذ بالأسباب في تحصيل الثواب في أيامه ولياليه.. وإنَّ من أعظم نفحات رمضان (العتق من النار).. حديثنا اليوم عن أفضل هدايا رمضان. عن أعظم فرصة ذهبيّة، وأرقى منحة ربانية في رمضان (العتق من النار). إنها أغلى أمنية للمؤمنين الصالحين، غاية ما يأمله الصالحون، ويشتاق إليه المشتاقون: أن يعتق المولى الرحيم رقابهم من النار؛ فكل بلاء دون النار عافية.. قال تعالى:) لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ ( [الحشـر: 20].
2. اجتناب مفسدات الصيام: دون سائر العبادات، قال القرطبي: لما كانت الأعمال يدخلها الرياء، والصوم لا يطلع عليه بمجرد فعله إلا الله فأضافه الله إلى نفسه؛ ولهذا قال في الحديث يدع شهوته من أجلي ، ولعل هذا هو السر في إضافة الصيام لله يفهم من الحديث أن العتيق من النار في رمضان هو الذي يصوم ابتغاء وجه الله فقط، ويؤكد هذا المراد ما جاء في الحديث القدسي: «الصوم لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وأكله وشربه من أجلي» (صحيح البخاري)، فالصيام عبادة سرية تكون بين العبد وربه، وفيها يظهر الإخلاص لله أكثر من غيرها؛ لأن الصائم يمتنع عن كل ما يرغب فيه من الملذات مع قدراته على إتيانها خوفا من الله. بحسب إخلاصه في صيامه، فإن العتق من النار هو جزء من ذلك الجزاء الذي لا يقدر؛ لأن العتق درجات والجنة مقامات، قال سفيان بن عييَنة: إذا كان يوم القيامة يحاسب الله عبده ويؤدي ما عليه من المظالم من عمله، حتى لا يبقى له إلا الصوم فيتحمل الله ما بقي عليه من المظالم ويدخله بالصوم الجنة، قال القرطبي: معناه أن الأعمال قد كشفت مقادير ثوابها للناس وأنها تضاعف من عشرة إلى سبعمائة إلى ما شاء الله إلا الصيام فإن الله يثيب عليه بغير تقدير.
عاشرًا: الحرص على القيام في العشر الأواخر؛ وتحري ليلة القدر؛ ففيها العتق أكثر ، وكانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تسأل النبي الحبيب r عن دعاء تستقبل به ليالي العفو، فورد في السُّنّة عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ عَلِمْتُ أَيُّ لَيْلَةٍ لَيْلَةُ القَدْرِ مَا أَقُولُ فِيهَا؟ قَالَ: "قُولِي: اللَّهُمَّ إِنَّكَ عُفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي ". فاستعن بالله وتجهّز للعشر الأواخر بطلب العفو وتحري القيام. أسأل الله تعالى أن يعفو عنا جميعا، وأن يكتبنا من عتقائه من النار..
وإذا كان جزاء الصائم بينه وبين الله وعليه، فإن إخلاص الصيام لله تعالى هو الذي جعل الصائم يتبوأ هذه المكانة الرفيعة، وأن الصوم إذا كان لأغراض أخرى كالحفاظ على رشاقة البدن، أو لعلاج بعض الأمراض، أو للتظاهر بكثرة الصوم أمام الناس، أو لكون الصوم عادة الناس في رمضان، فهو صوم باطل شرعا، وليس لصاحبه إلا الجوع والعطش. ثانيا: من ثمرات العتق من النار في رمضان: 1. قبول دعاء العتيق: فيطلب من الله العون، وكشف الضر، ودوام العافية، فيستجيب الله للداعي؛ لأنه صائم عتيق صار من أصحاب الجنة، ويؤكد هذه النتيجة قولهﷺ: «ثلاثة لا ترد دعوتهم الصائم حتى يفطر.. » (سنن الترمذي)، أشار النبي بقوله: «لكل عبد منهم دعوة مستجابة» إلى ثمرة العتق من النار في رمضان، وهذا فضل آخر يحصل عليه الصائم بعد نعمة العتق، فالله يسمع دعوته ويستجيب له. ولاشك أن الدعاء عبادة يتقرب بها العبد إلى ربه، ويعترف من خلاله بضعفه وعجزه بين يدي الله ويحضر قلبه، ويدعوا بآداب وإلحاح، ويكثر من الاستغفار، ويقلع عن الذنوب؛ لأنه يناجي ربه بغير واسطة، والله سميع بصير يعلم أحوال الداعي، وقصده، وحاجاته. استقامة العتيق على فعل الخير: حرم جسده على النار، وصار من أهل الجنة، فهو قد وُفق للابتعاد عن الشر والعصيان، وأخذ بيده ليكون من أهل الفضل والإحسان، وهذا المقام يحتاج من العتيق إلى مجاهدة النفس، ومساعدة غيره من العصاة ليعرفهم على رحمة الله ولطفه بعباده لعل الله يهدي به غيره، من ثمرات العتق من النار في رمضان؛ أن العتيق يراجع حاله ويعود إلى رشده؛ لأن الله وهذا واقع مشاهد؛ فكثير من الناس يأتيهم رمضان وهم على أعمال الشر، فيخلصون الصيام لله، ويكثرون من القيام، والدعاء.