وكذلك فعل زيد بن حارثة، حيث عمد إلى فرس يقال له: سَبَل، وقال: اللهم إنك تعلم أنه ليس لي مال أحب إليّ من فرسي هذه، فجاء بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هذا في سبيل الله، فقال لأسامة بن زيد اقبضه فكأن زيداً وَجِد من ذلك في نفسه، فقال رسول الله عليه الصلاة والسلام إن الله قد قبلها منك، وأعتق ابن عمر نافعاً مولاه وكان أعطاه فيه عبد الله بن جعفر ألف دينار، قالت صفية بنت أبي عبيد: أظنه تأول قول الله عز وجل لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون.
قوله تعالى: وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه أخرج ابن المنذر عن الضحاك أنه سئل عن قوله: وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه النفقة في سبيل الله؟ قال: لا، ولكن نفقة الرجل على نفسه وأهله فالله يخلفه. وأخرج سعيد بن منصور ، والبخاري في "الأدب المفرد"، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في "شعب الإيمان" عن ابن عباس في قوله: وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه قال: في غير إسراف ولا تقتير. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير عن سعيد بن جبير في قوله: وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه قال: في غير إسراف ولا تقتير. وأخرج البيهقي في "شعب الإيمان" عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ ص: 224] ما أنفقتم على أهليكم في غير إسراف ولا تقتير فهو في سبيل الله. وأخرج الفريابي ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد قال: إذا كان لأحدكم شيء فليقتصد، ولا يتأول هذه الآية: وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه ؛ فإن الرزق مقسوم يقول: لعل رزقه قليل وهو ينفق نفقة الموسع عليه. وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه قال: ما كان من خلف فهو منه، وربما أنفق الإنسان ماله كله في الخير ولم يخلف حتى يموت، ومثلها: وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها [هود: 6] يقول: ما أتاهم من رزق فمنه، وربما لم يرزقها حتى تموت.
لا يظلمه ولا يخذله ، إن كان عندك معروف ، فعد به على أخيك ، وإلا فلا تزده هلاكا إلى هلاكه ". هذا حديث غريب من هذا الوجه ، وفي إسناده ضعف. وقال سفيان الثوري ، عن أبي يونس الحسن بن يزيد قال: قال مجاهد: لا يتأولن أحدكم هذه الآية: ( وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه): إذا كان عند أحدكم ما يقيمه فليقصد فيه ، فإن الرزق مقسوم.
وقد لا يكون الخلف في الدنيا فيكون كالدعاء - كما تقدم - سواء في الإجابة أو التكفير أو الادخار; والادخار هاهنا مثله في الأجر. مسألة: روى الدارقطني وأبو أحمد بن عدي عن عبد الحميد الهلالي عن محمد بن المنكدر عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كل معروف صدقة وما أنفق الرجل على نفسه وأهله كتب له صدقة وما وقى به الرجل عرضه فهو صدقة وما أنفق الرجل من نفقة فعلى الله خلفها إلا ما كان من نفقة في بنيان أو معصية. قال عبد الحميد: قلت لابن المنكدر: ( ما وقى الرجل عرضه) ؟ قال: يعطي الشاعر وذا اللسان. عبد الحميد وثقه ابن معين. قلت: أما ما أنفق في معصية فلا خلاف أنه غير مثاب عليه ولا مخلوف له. وأما البنيان فما كان منه ضروريا يكن الإنسان ويحفظه فذلك مخلوف عليه ومأجور ببنيانه. وكذلك كحفظ بنيته وستر عورته ، قال صلى الله عليه وسلم: ليس لابن آدم حق في سوى هذه الخصال ، بيت يسكنه وثوب يواري عورته وجلف الخبز والماء. وقد مضى هذا المعنى في ( الأعراف) مستوفى. قوله تعالى: وهو خير الرازقين لما كان يقال في الإنسان: إنه يرزق عياله والأمير جنده; قال: وهو خير الرازقين والرازق من الخلق يرزق ، لكن ذلك من مال يملك عليهم ثم ينقطع ، والله تعالى يرزق من خزائن لا تفنى ولا تتناهى.
وروى شبل عن أبي نجيح عن مجاهد قال: كتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري أن يبتاع له جارية من سبي جلولاء يوم فتح مدائن كسرى، فقال سعد بن أبي وقاص: فدعا بها عمر فأعجبته، فقال: ان الله عز وجل يقول لن تنالوا البّر حتى تنفقوا مما تحبون وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم فاعتقها عمر رضي الله عنه. قال الإمام القشيري: لقي رجل من اهل منبج رجلاً من أهل المدينة فقال: ممن الرجل؟ فقال: من أهل المدينة، فقال: لقد اتانا منكم رجل يقال له الحكم بن المطلب فأغنانا، فقال المدني: كيف وما أتاكم إلا في جبة من صوف؟ فقال: ما أغنانا بمال، ولكن علمنا الكرم فعاد بعضنا على بعض حتى استغنينا. وروي عن عمر بن عبد العزيز انه كان يشتري اعدالاً من السكر ويتصدق بها، فقيل له: هل تصدقت بقيمتها؟ فقال: لأن السكر أحب إليَّ فأردت أن أنفق مما أُحب، وقال الحسن: إنكم لن تنالوا ما تحبون إلا بترك ما تشتهون، ولا تدركوا ما تأملون إلا بالصبر على ما تكرهون. * رئيس المحكمة الشرعية السنية العليا - لبنان
الجود صفة أهل المروءات الذين يسعدون بخدمة المحتاجين، ويسعون إلى إدخال الفرح على المسلمين، وأهل النجدة والمواساة والمروءة والوفاء أغلى من الدنيا وما فيها، لا سيما في هذا الزمان، وعلينا ان نتجنب البخل لأنه من أخبث أمراض النفوس، قال عليه الصلاة والسلام وأي دواء ادوأ من البخل. والجود لا يرتبط بفقر أو غنى، والسخاء لا يكون في وقت دون وقت، أو حال دون حال، بل هو سجية ثابتة وملكة راسخة، وقد حكى القرآن الكريم من أخلاق الصالحين أنهم يوفون بالنذر ويخافون يوماً كان شرّه مستطيرا. ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيرا. إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكور. إنا نخاف من ربنا يوماً عبوساً قمطريرا (سورة الإنسان، الآيات 7 -10).
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ ۚ وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ ۖ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39) قوله تعالى: قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين. قوله تعالى: قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له كرر تأكيدا. وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه أي قل يا محمد لهؤلاء المغترين بالأموال والأولاد إن الله يوسع على من يشاء ويضيق على من يشاء ، فلا تغتروا بالأموال والأولاد بل أنفقوها في طاعة الله ، فإن ما أنفقتم في طاعة الله فهو يخلفه. وفيه إضمار ، أي فهو يخلفه عليكم; يقال: أخلف له وأخلف عليه ، أي يعطيكم خلفه وبدله ، وذلك البدل إما في الدنيا وإما في الآخرة. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان ينزلان فيقول أحدهما اللهم أعط منفقا خلفا وأعط ممسكا تلفا. وفيه أيضا عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الله قال لي أنفق أنفق عليك.. الحديث. وهذه إشارة إلى الخلف في الدنيا بمثل المنفق فيها إذا كانت النفقة في طاعة الله.
ثم قال: اقرءوا مواضع الخلف؛ فإني سمعت الله يقول: وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه. إذا لم تنفقوا كيف يخلف؟. وأخرج الحكيم الترمذي في "نوادر الأصول"، عن أبي هريرة عن رسول [ ص: 226] الله صلى الله عليه وسلم قال: إن المعونة تنزل من السماء على قدر المئونة. وأخرج الحكيم الترمذي عن الزبير بن العوام قال: جئت حتى جلست بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ بطرف عمامتي من ورائي، ثم قال: يا زبير إني رسول الله إليك خاصة وإلى الناس عامة، أتدرون ماذا قال ربكم؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: قال ربكم حين استوى على عرشه، ونظر إلى خلقه: عبادي أنتم خلقي وأنا ربكم أرزاقكم بيدي، فلا تتعبوا فيما تكفلت لكم فاطلبوا مني أرزاقكم، وإلي فارفعوا حوائجكم، انصبوا إلى أنفسكم أصب عليكم أرزاقكم، أتدرون ماذا قال ربكم؟ قال الله تبارك وتعالى: عبدي أنفق أنفق عليك، وأوسع أوسع عليك، ولا تضيق أضيق عليك، ولا تصر فأصر عليك، ولا تخزن فأحزن عليك. إن باب الرزق مفتوح من فوق سبع سماوات متواصل إلى العرش، لا يغلق ليلا ولا نهارا، ينزل الله منه الرزق على كل امرئ بقدر نيته وعطيته وصدقته ونفقته من أكثر أكثر له، ومن أقل أقل له، ومن أمسك أمسك عليه.
وأطيب الناس في الدنيا كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قد أفلح من أسلم ورزق كفافا ، وقنعه الله بما آتاه ". رواه مسلم من حديث ابن عمرو. وقوله: ( وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه) أي: مهما أنفقتم من شيء فيما أمركم به وأباحه لكم ، فهو يخلفه عليكم في الدنيا بالبدل ، وفي الآخرة بالجزاء والثواب ، كما ثبت في الحديث: يقول الله تعالى: أنفق أنفق عليك ". وفي الحديث: أن ملكين يصيحان كل يوم ، يقول أحدهما: " اللهم أعط ممسكا تلفا " ، ويقول الآخر: " اللهم أعط منفقا خلفا " وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أنفق بلالا ولا تخش من ذي العرش إقلالا ". وقال ابن أبي حاتم عن يزيد بن عبد العزيز الطلاس ، حدثنا هشيم عن الكوثر بن حكيم ، عن مكحول قال: بلغني عن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ألا إن بعدكم زمان عضوض ، يعض الموسر على ما في يده حذار الإنفاق ". ثم تلا هذه الآية: ( وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين) وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي: حدثنا روح بن حاتم ، حدثنا هشيم ، عن الكوثر بن حكيم عن مكحول قال: بلغني عن حذيفة أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ألا إن بعد زمانكم هذا زمان عضوض ، يعض الموسر على ما في يديه حذار الإنفاق " ، قال الله تعالى: ( وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين) ، وينهل شرار الخلق يبايعون كل مضطر ، ألا إن بيع المضطرين حرام ، ألا إن بيع المضطرين حرام المسلم أخو المسلم.
ومن أخرج من عدم إلى الوجود فهو الرازق على الحقيقة ، كما قال: إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين.